ما حكم طلاق المكره، وما يترتب عليه؟
الجــــــــــــــواب:
اختلف أئمة المسلمين وعلماؤهم منذ الرعيل الأول في وقوع طلاق المكره، والذي تقتضيه الأدلة عدم وقوعه فيما بين المكره وبين ربه وفيما بينه وبين الناس إن ثبت الإكراه، والله تعالى يقول يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ )(1)وإليك نبذة عن مما دونه علماء المسلمين في ذلك:
▪ قال العلامة ابن حزم الظاهري في كتابه"المحلى": وطلاق المكره غير لازم له، وقد اختلف الناس في هذا، فروينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن سليمان الشيباني عن علي بن حنظلة عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب: " ليس الرجل بآمن على نفسه إذا أخفته أو ضربته أو أوثقته"، ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الملك بن قدامة الجمحي حدثني أبي: " أن رجلاً تدلى بحبل ليشتار عسلاً فأتت امرأته فقالت: لأقطعن الحبل أو لتطلقني، فناشدها الله فأبت فطلقها، فلما ظهر أتى عمر بن الخطاب فذكر له ذلك فقال عمر: ارجع إلى امرأتك فإن هذا ليس بطلاق"، وعن عبد الرحمن بن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن: " أن علي بن أبي طالب كان لا يجيز طلاق المكره"، ومن طريق سفيان بن عيينه عن عمرو بن دينار عن ثابت الأعرج قال: سألت ابن عمر وابن الزبير عن طلاق المكره فقالا جميعاً : " ليس بشيء"، ومن طريق الحجاج بن منهال نا هشيم نا عبيد الله بن طلحة الخزاعي نا أبو يزيد المدني عن ابن عباس قال: " ليس لمكره ولا لمضطر طلاق"، ومن طريق عبد الرزاق بن المبارك عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن ابن عباس" أنه كان لا يرى طلاق المكره شيئاً"، وصح عن الحسن البصري طلاق المكره لا يجوز، وهو أحد قولي عمر بن عبد العزيز، وصح عن عطاء وطاوس وأبي الشعثاء جابر بن زيد، وعن الحجاج بن المنهال نبأنا عوانة عن المغيرة عن إبراهيم قال: "الطلاق ما عني به الطلاق"، وهو قول مالك والأوزاعي والحسن بن حي والشافعي وأبي سليمان وأصحابهم وأحد قولي الشافعي.
▪ وروي خلاف ذلك عن عمر كما روينا عن سعيد بن منصور نا فرج ابن فضالة حدثني عمرو بن شراحيل المعافري: أن امرأة سلت سيفاً فوضعته على بطن زوجها وقالت والله لأنفذنك أو لتطلقني، فطلقها ثلاثاً، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فأمضى طلاقها، وعن ابن عمر روينا عنه أنه سأله رجل فقال له: إنه وطئ فلان على رجلي حتى أطلق امرأتي؛ فطلقها فكره له الرجوع إليها، وهذا يخرج على أنه لم ير ذلك إكراهاً، وروي أيضاً عن عمر بن عبد العزيز وروينا عن علي بن أبي طالب: "كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه"، وقد روينا عنه قبل إبطال طلاق المكره، وروي أيضاً عن إبراهيم وصح عن أبي قلابة والزهري وقتادة وسعيد بن جبير وبه أخذ أبو حنيفة وأصحابه.
▪ وقول ثالث: وهو أن طلاق المكره؛ إن أكرهه اللصوص لم يلزم، وإن أكرهه السلطان لزمه، ورويناه عن الشعبي.ٍٍ
▪ وقول رابع: روينا عن إبراهيم أنه قال: إن أكره ظلماً على الطلاق فورك إلى شي آخر لم يلزمه، فإن لم يورك لزمه، و لا ينتفع الظالم بالتوريك، وهو أحد قولي سفيان أ.هـ كلامه.
وقال الإمام ضياء الدين الثمني ـ رضي الله عنه ـ في النيل: "المختار عندنا أنه لا يلزم مقهوراً ومكرهاً طلاق، لقوله عليه السلام: "ليس على مقهور عقد ولا عهد"، وفي رواية: "لا طلاق على مغلوب" أو قال: "مغصوب".
وفي ديوان الأشياخ ـ رحمهم الله ـ: طلاق الإجبار منها أو من غيرها ليس شيء، وعلى هذا درج القطب ـ رحمه الله ـ في شرح النيل، ولهذا الرأي الوجيه ـ الذي قال به جم غفير من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ومن بعدهم ـ أدلة كافية في ترجيحه على غيره من الآراء.
منها: عدم ترتب شيء من الأحكام على المكره؛ إن اضطر إلى قوله شيء يتنافى مع قواعد الإيمان ولو نطق بالشرك؛ لاستثناءه الكتاب في قوله عز من قائل: ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ )(2)، وليس تطليق الزوجة أعظم من قول الشرك الذي يترتب عليه ـ في حكم الظاهر ـ الخروج من الملة وإباحة سفك الدماء وما يتبعه من الأحكام الخطيرة التي لا تدرأ عنه لو لا ثبوت الإكراه، هذا وقد ثبت من طريق عائشة ـ رضي الله عنها ـ عنه عليه أفضل الصلاة والسلام: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوه عليه"(3) والطلاق مندرج تحت هذا الحكم لعموم الحديث.
ومنها ما جاء في السنن عنه صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق في إغلاق" وهو وإن اختلف العلماء في معناه اختلافاً كثيراً، فلا مانع من الاستدلال به على عدم وقوع طلاق المكره، لشمول لفظة الإغلاق له، على أن القطب ـ رحمه الله ـ صوب حمله على معنى الإكراه وحسبنا أن هذا الرأي قال به من أجله الصحابة والتابعين من تقدم ذكره، وركن إليه الجمهور.
أما أدلة من خالفه فهي لم تسلم من الطعن، إما من صحتها، وإما في وجه الاستدلال بها، ومن هذه الأدلة:
ما جاء في السنن من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ" ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة"(4).
وأجيب بأن المكره غير هازل، ولو سلم أنه هازل فهو مخصوص من هذا العموم بحديث الإكراه، على أن ابن حزم لم يسلم لصحة هذه الرواية، فقد قال في "المحلى": إنما رويناها من طريق عبد الرحمن بن حبيب بن أدرك: وهو منكر الحديث؛ لأن قوماً قالوا: عن عبد الرحمن بن حبيب، وقوماً قالوا: حبيب بن عبد الرحمن وهو مع ذلك متفق على ضعف روايته، ثم تعرض لروايات نظيرة لها في هذا المعنى عن أبي بردة والحسن، وأعلها جميعاً، منها ما أعله بالإرسال، ومنها ما أعله بالانقطاع الفاحش، ومنها ما أعله بوجود من ذكر بالكذب في إسناده، وهي مع هذا كله لم تتعرض لذكر الإكراه.
ومن أدلتهم: ما رواه سعيد بن منصور في سننه من حديث صفوان بن عمرو الأصم الطائي عن رجل من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن رجلاً جلست معه امرأته على صدره وجعلت السكين على حلقه وقالت له: طلقني أو لأذبحنك. فناشدها الله تعالى فأبت فطلقها ثلاثاً، فذكر ذلك للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال" لا قول له في الطلاق".
وأجيب بأن الحديث لا يصلح للاستدلال؛ لأن صفوان الراوي ضعيف منكر الحديث، وقد رواه عنه الغافري بن جبلة، وصفه ابن القيم باللين، وقال عنه ابن حزم: مغمور، ورواه عن العازي بقية؛ وهو موصوف بالضعف والتدليس.
ومنها: رواية عطاء بن عجلان مذكور بالكذب؛ فلا تقوم بروايته حجة، وأيضاً فإن المحتجين به وهم الحنفية قد خالفوا بهذا الاحتجاج أصلهم في ترك العمل بالروايات إن خالفها رواتها من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، فإن الحديث من رواية ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، والثابت عنه إبطال طلاق المكره، فما بالهم هنا أخذوا بروايته وعدلوا عن رأيه.
أما من فرق بين إكراه السلطان وغيره، فلعله يبني مذهبه على اعتبار إكراه السلطان حكماً منه يجب امتثاله، غير أن الأحكام لا عبرة بها ـ ممن صدرت ـ إلا إذا كانت مبنية على قواعد الشرع المستمدة من حكم الله وحكم رسوله الأمين ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقد صح في الحديث عنه عليه أفضل الصلاة والسلام "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".
أما من فرق بين أن يورك المكره أو لا يورك، فالظاهر أنه بنى رأيه على رعاية المقاصد، عملاً بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" غير أن أدلة القول الأول لم تفرق، وهي أقوى من هذا الاستظهار.
هذا واختلف في حد الإكراه، فروي عم الإمام مالك اعتبار خوفه على نفسه أو ولده أو ماله وبذلك قال أكثر أصحابه، وقال القطب ـ رحمه الله ـ والمذهب أنه لا إكراه بإذهاب مال إلا إن كان يؤدي إذهابه إلى الموت أو ذهاب عضو، وقال الإمام الثميني ـ رحمه الله ـ واختلف في حد الإكراه فقال عمر: "ليس الرجل أميناً على نفسه إن أوجع أو ضرب"، وقال شريح: إن القيد كره والوعيد كره والسجن كره، وقال بعض: إن خاف قتلاً أو قيداً أو ضرباً فإنه يعذر و لا يلزمه الطلاق، وليس بعد الإيعاد إلا الفعل.
هذا ما حضرني من الجواب على هذا السؤال النفيس، ومن الله استمد العون على قول الحق والعمل به، وهو حسبي ونعم الوكيل، وصلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
--------------------------------------
(1) الآية رقم (19) من سورة غافر.
(2) الآية رقم (106) من سورة النحل.
(3) رواه ابن ماجة.