امرأة..
وخمسة رجال..
في جزيرة مسحورة..
فيها شجرة تفاح..
وجمجمة....
.........................
بهذه المفردات –غير العادية– يغزل الكاتب الساخر "محمد عفيفي" روايته "التفاحة والجمجمة"، هذه الرواية التي قد تبدو للوهلة الأولى فكاهية تماما لما فيها من مفارقات وأسلوب ساخر بديع والحق أنها رواية فلسفية ذات رموز عديدة مثل سائر أعماله.. إنها تاريخ الإنسانية كلها ممثلا في نزاع على السلطة والمرأة.. شريعة القوة سواء عضلية أو مسلحة مثل خنجر بدائي أو مسدس في نفس التطور الذي مرت به البشرية في عالم الواقع.. السلاح ينتقل من يد إلى يد والكل يستخدمه بلا روية، فظاظة القوة في التاريخ الإنساني ها هنا: الجبروت واستعباد الإنسان في سبيل الحصول على طعام، ثم يكون النصر النهائي للعقل لا للقوة الغاشمة. أضعف المتنازعين المهندس "أحمد" سيتمكن من الظفر بكل شيء: السلاح بما يتيحه من سلطة، والمرأة بما تبعثه من حب، وسيهتدي إلى الوسيلة المناسبة لمغادرة الجزيرة. كل هذا بفضل العقل.
ولكن دعونا نحكِ من البداية.
المرأة ليست كأي امرأة.. "زازا" الحسناء اللعوب كثيرة العشاق التي لا تجد عيبا في أي رجل ما دام رجلا.. الأنثى البدائية قبل الأديان والأخلاق، الراغبة في الخصوبة والمتعة والتي تمنح نفسها لأي رجل ما دام يروق لها في هذه اللحظة.. لا تؤمن بالإخلاص لرجل معين بل لا تشعر –أصلا- بضرورة وجود أي قيم أخلاقية.. برغم هذا يتهافت الرجال عليها، تأسرهم بحسنها البديع، بشعرها الذهبي وعينيها التي هي مزيج نادر من اللونين الأخضر والأزرق، بالإضافة لذلك فهي ذكية ضاحكة سريعة البديهة خفيفة الظل.
أما الرجال الخمسة فهم "أحمد" راوي القصة.. مهندس سفن لطيف الفكاهة لكنه ضعيف الجسد يقضي معظم الوقت في الجري هاربا من مشاجرات الرجال الأشداء ولكنه سيفوز في النهاية بكل شيء.. "توتو" مجهول الجنسية الذي يتكلم لغة مجهولة، مفتول العضلات، باسم الثغر والوحيد الذي يجيد اصطياد السمك بخنجره الخاص.. هناك أيضا المعلم "طلبة".. رجل أربعيني دسم المحفظة، يمثل سلطة الدين والمال، مصادر قوته دفتر شيكات ومسدس ضخم مخيف وتابعه "كرشة"، هذا الشاب الذي هو عبارة عن كتلة بدائية من العضلات.. أشبه ما يكون برجل الكهف بفك الغوريلا وعينيه الضيقتين الغبيتين وطريقة نطقه المشوهة.
مسرح الرواية هو تلك الجزيرة المنعزلة التي وصل إليها أحمد و"زازا" بعد غرق السفينة.. تم التعارف بينهما في البحر بعد أن أوشك على الغرق.. أمسك كلاهما بقطعة الخشب الطافية.. وفي ضوء القمر، على مقربة من سفينة غارقة تم أغرب تعارف يمكن تخيله بين رجل وامرأة.. وبرغم الخطر المحدق لم ينسَ أنه رجل وأنها امرأة مستنشقا عطرها الأخاذ الذي لم تفلح مياه البحر في إزالته.. وسرعان ما جاءت النجدة حينما سمعوا صراخ طائر يرفرف، ثم ظهرت الأرض الطيبة التي كان ملمسها هو أجمل ملمس في العالم.. راحا يتعثران ويترنحان ويغرسان أصابعهما في الرمال الرطبة الناعمة.
عيناها التقتا بعينيه في نظرة طويلة صامتة، نظرة تفاهم عميق بين اثنين ذاقا الحياة والموت، ثم ابتسامة واهنة، والدفء الجميل يسري فيهما من أشعة الشمس المتسللة ثم غرق كلاهما في السبات العميق.
.........................
رجل وامرأة في جزيرة منعزلة يحوطهما الأزرق العظيم من كل اتجاه.. حلم العشاق الأزلي منذ أن وجد هذا العالم.. الجزيرة صغيرة جدا لا تزيد مساحتها عن فدان، في الجزيرة أشياء مفيدة مثل عين مياه وشجرة تفاح وكوخ صغير خال، وأشياء مخيفة مثل عظام بشرية قديمة وجمجمة منكفئة على وجهها.. وأشياء غريبة مثل ساعته التي تدور عقاربها بسرعة جنونية ولحيته التي تنمو بسرعة فائقة وثمار التفاح التي تتحول في ساعتين من ثمار خضراء صغيرة إلى حمراء كبيرة ناضجة؟
هذه الجزيرة مسحورة ولها زمنها الخاص الذي لا تخضع له "زازا"، الأنثى الخالدة كما قدستها الديانات الوثنية القديمة والقادرة على صنع معجزة الخلق بالإخصاب. كان واضحا أن الحب يغزل رباطه بين قلبيهما.. تنظر إليه وتبتسم، في عينيها نداء.. وبينما هو يقترب منها مسحورا ليضمها ويقبلها فوجئ برأس بشرية تطل متلصصة عليه من وراء الكوخ!!
.........................
"توتو"، الشاب البرونزي الذي كان يصاحب "زازا" على سطح السفينة.. مفتول العضلات في رشاقة تؤهله لكمال الأجسام.. وسيم فاحم الشعر، جرت "زازا" نحوه كالمجنونة فرحة بنجاته من الغرق المحقق.. من الطبيعي أن يشعر "أحمد" صوبه بالبغض الشديد. كان الموقف مفهوما منذ اللحظة الأولى: امرأة واحدة ورجلان!!.. الرجل للرجل إما صديق مرغوب أو منافس مرهوب.. ولا شيء يمكن أن يغير من هذه الحقيقة.. كانت كل خلية في جسده تهيب به للهجوم عليه وإلقائه في البحر لولا الحكمة التي أخبرته بأن الهجوم على ثور بهذا الطول والعرض عملية انتحارية لا أكثر.. هكذا تجري الرواية في أشد لحظات التاريخ بدائية.
يجلس جريحا تحت شجرة التفاح.. ينهضان ويبتعدان وهي تتأبط ذراعه.. يتابعهما بنظرة تقطر مرارة وحسدا.. "زازا" اللذيذة خطفها الوغد خطفا وصارت ملكا له بل لم يتورعا أن يتبادلا القبلات أمامه.. حينما نام العملاق شعر برغبة عارمة في انتزاع الخنجر منه مهما كانت المخاطر.. كان بحاجة لأن يثبت لنفسه –ولـ"زازا"- أنه ليس جبانا إلى هذا الحد.. حينما تمكن من سلب خنجره وأصبح في موقع القوة لم يفكر قط في طعن العملاق النائم فهو لم يكن بالرجل الذي يقتل تحت أي ظرف.. كان سعيدا -كالأطفال- بنجاحه في المغامرة.. سرور صبياني خالص يتراقص في صدره.. حلق لحيته وشذب أظافره ثم غرس الخنجر في الرمال على مقربة من العملاق النائم الذي استيقظ فجأة وتحسس خنجره فارتسم الفزع في عينيه.. وسرعان ما تلفت حوله وأبصر الخنجر عن مقربة وفهم كل شيء.
ابتسم له العملاق في ود، "زازا" أكبرته لجسارته ومروءته.. موجة سعادة غمرت الثلاثة معا فراحوا يضحكون بلا سبب.. ونظرة حنان تسبح في بحيرة عينيها.. وبينما هو يقترب إذ بشيء في البحر يقترب.. وثبت "زازا" لتتفرج، لم يكن غريقا واحدا وإنما كانا اثنين: الحاج "طلبة حسنين" و"كرشة".. منذ اللحظة الأولى فرض الحاج "طلبة" نفسه زعيما على تلك الجماعة الصغيرة.. خاصة أن لديه من المسوغات ما يؤهله لذلك: دفتر الشيكات ومسدسه الأسود و"كرشة" المستعد لتنفيذ أوامره قبل أن ينطق بها.. كرمز للدين أمر "كرشة" بخلع جلبابه الخشن لتستر به "زازا" جسدها المكشوف بفستان نوم بمبي رغم تمرد الأنثى البدائية واحتجاجها.
تم إجبار "توتو" على صيد السمك بالقوة الممثلة في المسدس الذي يمتلكه الحاج "طلبة"، ببساطة عبودية الإنسان وتسخيره في مصلحه سيده.. ثم بدأ الصراع المحتوم بين الرجال على الأنثى الوحيدة.. "توتو" يقاتل "كرشة".. "كرشة" يضرب "توتو"، "أحمد" يجري من هذا وذاك، والحاج "طلبة" يشترك في الصراع ويقرر الزواج بها بشرعية القوة المتمثلة في المسدس الذي يحمله.. و"زازا" الأنثى البدائية الخالدة لا يهمها اسم الرجل فهي تريد رجلا والسلام.
قال الحاج "طلبة": الست "زازا" عايزة راجل مقتدر، راجل ملو هدومه، يلبسها وينغنغها ويعيشها عيشة ملوك، ولاّ أنا غلطان يا ست "زازا"؟
فلم تجب "زازا" من فورها، راحت تنقل البصر بين الرجال ثم بدأت تضحك حتى تهالكت على ركبتيها، ورفعت يدها إلى وجهها لتستر ضحكها فلما رفعتها كان وجهها مبللا بالدموع.
- ما هو شوفوا لما أقول لكم، قالت بصوت متهدج، اتفقوا مع بعض وشوفوا لي عريس، أنا عاوزة أتجوز وخلاص!.
ولأول مرة يشترك مع "كرشة" في شعور مشترك: الحقد, "توتو" أيضا كف عن الابتسام.. لأول مرة يطالعه بوجه عابس أمام البحر وهو ينشد أغنيته الغامضة.. راحت عليك يا "توتو" أيها التمثال البرونزي الجميل وراحت عليه أيضا.
.........................
وبدأت محاولات صناعة مركب من خلال جذع شجرة ملقى على أرض الجزيرة بأدوات بدائية تحت إشراف "أحمد" الذي استعان بخبرته الهندسية.. هيأ له ذلك مكانة لا يستهان بها ونصيبا لا بأس به من السمك الذي يصطاده "توتو".. مكانة المهارة اليدوية في التاريخ الإنساني.. جرى العمل في بطء مميت بينما نشبت كالمعتاد مشاجرات عديدة بين الذكور وتحدث المفاجأة الكبرى بتمرد "كرشة" على سيده.
"كرشة" اتجنن، هكذا قالت "زازا" لـ"أحمد"، وبعد أن كان يغض البصر إذا شاهد زوجة سيده صار يحملق فيها بصفاقة ويبتسم ابتسامة لزجة.. بعدها جاوزت جرأته الحدود حينما راح يطرقع أصابعه ويتراقص.. وكانت "زازا" معذورة في الضحكة التي أفلتت منها فجعلته يقرصها في ذراعها!.
كانت مفاجأة الحاج "طلبة" كاملة حينما تمرد خادمه عليه.. لم تفته نظراته الطويلة المتحدية من خلال جفونه الثقيلة المتهدلة.. راح يحملق في دهشة وخوف.. وتحسس مسدسه الذي لا يعلم أن زوجته أفرغته من الرصاص خلسة حقنا للدماء.. في النهاية ضرب الحاج "طلبة" حتى أغشي عليه ثم جذب "زازا" من ذراعها نحو الكوخ بينما هي تصرخ وما من مجيب.
.........................
الحاج "طلبة" أفاق في الصباح، وما كاد يتذكر حتى جحظت عيناه وراح يطرق باب الكوخ الموصد ويصرخ في غل لكن "كرشة" استهزأ به فجن جنونه وحاول إحراق الكوخ لولا تدخل "توتو" وانطلق "كرشة" كثور هائج محاولا قتل سيده القديم وبدافع من المروءة تدخل "توتو" لإنقاذه فنشبت مشاجرة انتهت بقتل "كرشة" بخنجر "توتو". وهكذا حدثت أول جريمة قتل في تاريخ الإنسانية بسبب امرأة.
وانتقلت السيطرة على الجزيرة إلى "توتو" بعد مقتل "كرشة" وفراغ المسدس من الرصاص.. اكتسى وجهه بقسوة غير مألوفة فيه.. وحتى السمك الذي يصطاده رفض أن يعطيهم ولو قطعة صغيرة منه.. وفي النهاية تعود السيطرة لـ"أحمد" الذي تعطيه "زازا" الرصاصات التي سرقتها من الحاج "طلبة".
وأصبح سبيل النجاة الوحيد هو إتمام صناعة المركب لمغادرة الجزيرة.
وجاء اليوم المنتظر.. اكتمل بناء المركب وركبوه جميعا.. تنزلق على الماء برشاقة البجعة الحسناء، تنساب وتتهادى على إيقاع جميل من خفق الموج.. لكنها لم تفلح في مغادرة الجزيرة إذ كانت تصل إلى نقطة معينة ثم تعود إليها آخر الأمر.. وكلما كرروا تجربة الابتعاد عن الجزيرة أطاعتهم السفينة حتى تبلغ نقطة معينة فتعود للدوران والعودة إلى الجزيرة.. تلك المعضلة التي حيرته لأيام طويلة قبل أن يهتدي إلى الحل.. لا شك أن هذه التيارات المائية بعد أن تصطدم بالجزيرة تعود لتبتعد عنها في مسارات معاكسة.. وبذلك يصبح الحل أن تعثر السفينة على تلك التيارات المبتعدة عن الجزيرة لتدور حولها في دورات متعاقبة تتسع بالتدريج حتى تأتي تلك اللحظة اللي تبتعد فيها عن جاذبية الجزيرة العجيبة.. بالعقل والتفكير العلمي تتم النجاة.
ويكون المشهد الختامي هكذا: مركب صغير مضحك يتلمس طريقه في البحر الداكن العريض، ومن فوقه ملايين النجوم المبعثرة في القبة السوداء.. الساعة كفت عن سيرها المجنون المتسارع وعادت حركة الزمن إلى طبيعتها، "زازا" تعلن فجأة أنها حامل وستلد على ظهر المركب في إشارة واضحة إلى استمرار الحياة رغم المصاعب والأخطار.