لله تبارك وتعالى قسم الأرزاق بين عباده بعدله وبحكمته، فهو تبارك وتعالى أعطى كل أحد ما أعطاه مما يتفوق به على الآخرين، ليكون هنالك تكامل في البنية البشرية، وقد فضل بعضهم على بعض في الرزق، وفضل بعضهم على بعض في القوة، وفي موهبة العقل، وفي السلطة، وفي شتى المزايا التي يختص بها من يشاء من عباده وهو القائل سبحانه: ( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ) (1) ، وقال سبحانه: ( وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ ) (2)، وهذا يعني أن وجود التفاضل في الجنس البشري أمر لا محيص عنه، تقتضيه الفطرة البشرية ليتم التكامل بين الناس، وليكون هنالك ما يكون من أسباب الترابط والاجتماع فيما بينهم، ومصارف الزكاة ليست منحصرة في الفقراء والمساكين وحدهم، بل مصارفها متعددة، والله تعالى يقول: ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ )
(3) ، فالزكاة تصرف في هذه المصارف الثمانية بأسرها، وإنما قدم الفقراء والمساكين لأجل ردم الهوة التي تفصل بين طبقات الناس، حتى لا تكون هذه الهوة واسعة، فيكون بذلك التقارب ما بين الطبقتين الطبقة الغنية الواجدة، والطبقة الفقيرة المحتاجة المعدمة، وهذه السنة ـ سنة الله تعالى في خلقه ـ في جميع المجتمعات البشرية، فهل يمكن أن يقال في هذه المجتمعات البشرية الراقية الآن بأنه لا يوجد فيها فقراء، فهل في الولايات المتحدة الأمريكية لا يوجد فقراء؟
وهل في الدول الأوربية لا يوجد فقراء؟ هذا وقد ضمن الإسلام للمسلمين ما ضمنه من الحقوق على اختلاف طبقاتهم ومواهبهم، وفرض على بعضهم للبعض حقوقاً بقدر ما منح الله سبحانه أولئك الذين فرض عليهم.. فالإسلام لم يحرم الإنسان من الملكية الخاصة بل أباح له التملك، ولكن مع تقييد هذه الملكية بقيود وضوابط أخلاقية، حتى لا يطلق الإنسان لنفسه العنان فيكون إثراؤه على حساب بني جنسه، وهذا بخلاف ما يوجد في المجتمعات الرأسمالية، وقد شاهدت بنفسي تباين الأوضاع في المجتمعات الرأسمالية، فهونكونج عندما كانت مستعمرة بريطانية شاهدت فيها العمارات الشاهقة التي هي كأنما تعانق السحاب وتناغي النجوم، وقيل لي إن فرداً قد يملك أكثر من عمارة من هذه العمارات، وإيجارها إيجار مرتفع جداً، بحيث قيل لي: بأن الشقة الواحدة يصل إيجارها في ذلك الوقت إلى ما يساوي أربعة آلاف ريال عماني في الشهر الواحد، بينما وجدت طائفة من الناس هناك لا مأوى لهم إلا أن يأووا إلى قوارب الصيد في البحر أو إلى هياكل السيارات المتحطمة، وهذا مما يدل على أن الفجوة ما بين الطبقتين فجوة سحيقة جداً، وهذا أمر لا يقره الإسلام، فالإسلام يأمر بالعطف والرحمة، ولا يأمر بالقسوة والشدة، ونجد أن انفجار الثورات الشيوعية في المجتمع الغربي ما كان إلا بسبب نتيجة القسوة التي كابدها الناس في ظل النظام الرأسمالي القاسي الشديد، فماركس نفسه عانى ما عانى من الحرمان، وتسجل ذلك امرأته في رسالة بعثت بها لصديق لها تقول: بأنهم اجتمع عليهم مبلغ من المال لصاحبة المسكن الذي كانوا يسكنونه بسبب الإيجار وبعض القروض، فما كان منها إلا أن باغتتهم في ليلة مطيرة شديدة البرد بالشرطة فأخرجوهم من المسكن وحاول زوجها بكل جهد أن يقنع أحداً أن يتقبل إيواءهم ولم يحصل، وتحدثت عن ابنة ولدت لهم، وكابدت من مرض ثم توفيت قالت: وظللنا نبكي عليها ولم نجد لها ثوباً نكفنها له... ثم قالت: واأسفاه لقد وفدت ابنتنا إلى الدنيا ولم ترزق مهداً وغادرتها ولم ترزق كفناً.
هذا هو النظام الرأسمالي، فهل قضى على هذه الفجوة ما بين تلك الطبقات هناك، وما هي أسباب مشكلات العمال والإضراب الذي يقع منهم إلا شعورهم بالحرمان، فالإسلام الحنيف فرض الزكاة وحقوقاً غيرها من أجل سد حاجات الفقراء والمساكين، فالله تعالى يقول: ( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ ) (4) ، فقد جعل إيتاء المال واقعاً في تسلسل درجات البر إثر العقيدة فوراً، وهذه حقوق من غير الزكاة، بدليل قوله من بعد ( وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ) (5) والمجتمعات الإسلامية عندما طبقت نظام الزكاة كاد ينعدم الفقر، ففي عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ لم يجد جباة الزكاة لها من يستحقها من الفقراء، فأمر عمر ـ رضي الله عنه ـ أن يزوج بها العزاب، ثم أمر بعد ذلك بأن يبنى لها مساكن للذين لا يملكون مساكن، ثم أمر بعد ذلك أن يواسى بها فقراء أهل الذمة. والله أعلم.
------------------------------
(1) الآية 32 من سورة الزخرف.
(2) الآية 71 من سورة النحل.
(3) الآية 60 من سورة التوبة.
(4) الآية 177 من سورة البقرة.
(5) الآية 177 من سورة البقرة.